يثير اسم حافظ في قلوب الإيرانيين مشاعر الرقة والأمل والسر، إنه شمس الدين محمد، الملقب بترجمان الأسرار ولسان الغيب، لقد أدرك الناس بفطرتهم أن الرجل برزخ بينهم وبين عالم ملئ بما يسعدهم، أوعلى الأقل ما يشبع فضولهم ويسد الخواء الذي يعتريهم.
ولد حافظ الشيرازي عام 1325م في شيراز جنوب إيران، وتعلم كباقي أبناء عصره العلوم الشرعية والأدب والحكمة، كان يحفظ القرآن ولذلك سمي ب(حافظ)، عرفه الغرب مع المفكر والأديب الألماني غوتة(28 أغسطس 1749 - 22 مارس 1832) ، الذي بحث عن أشعاره إلى أن اكتشفها عام 1814م، فصاح فرحا: " إنها أخيرا بين يدي" ، أحب غوته شعر حافظ وسبر أغوار معانيه، ونسج معه علاقة روحية خاصة، وفي النهاية كتب ديوانا شعريا أهداه لحافظ الشيرازي تحت عنوان" الديوان الشرقي للشاعر الغربي". ومما أنشده غوته في حافظ هذه الأبيات:
أنت يا(حافظ) لا تؤذن بانتهاء وهذه عظمتك
ولا عهد لك بابتداء وهذه قسمتك
وشعرك كالفلك يدور على نفسه بدايته ونهايته سيان
حافظ السر والغيب
ويمكنك أن ترى اليوم حافظا في شوارع طهران أو أصفهان أو أي من المدن الإيرانية بلا عناء، يقصده الناس من أجل استطلاع الغيوب والسؤال عن المستقبل، لا يزال الإيرانيون يستفتون الرجل الذي ودعهم منذ قرون راحلا إلى دار الخلود عن الآتي من أحوالهم، والأكثر من هذا أن حافظ ساكن القلوب انتقل من شوارع وأزقة المدن إلى المواقع الالكترونية، لذلك يبدو أن الرجل سيصاحب الشعب الإيراني حتى النهاية، يستلمه جيل من جيل، فهو رفيق الإيرانيين في بيوتهم، إذ لا تكاد تجد بيتا إيرانيا خاليا من ديوان حافظ الشيرازي، وينذر أن تفتح موقعا من المواقع دون أن تجد نافذة فال حافظ مستقرة في زاويته.
لذلك لا تختلف مكانة حافظ سواء كان على رف أو على رصيف أو في حيز افتراضي، فهو مهوى القلوب الحائرة، التي تبحث عن الطمأنينة، يقصدونه لاستكشاف الأسرار واقتحام الغيوب.
حافظ الحقيقة، عدو النفاق
عرف العالم الإسلامي في عصر حافظ الشيرازي انتكاسة كبرى، إنها الأيام التي اجتاح فيه المغول حواضر المسلمين ونكلوا بهم واستباحوا كل شئ، كان الموقف بالنسبة لحافظ الشيرازي جد مؤلم، خاصة وأن ذلك الانهزام انعكست آثاره على النفوس والعقول، فأصبح شاعرنا أمام مجتمع في حاجة إلى التقويم والتوجيه، لذلك استثمر أرقى وأمتن ما ورثه من قرون عنفوان الأدب الفارسي والتراث الإسلامي في التعبير والوصف.
ليس من الغريب إذا أن تكون أهم المضامين التي تترد في شعر حافظ الشيرازي، هي تلك التي تدين النفاق الديني والاجتماعي، ومظاهر الزيف التي يختبئ وراءها الضعاف والماكرون بغية تحقيق مآرب دنيوية صغيرة، لذلك يضعك حافظ أمام شخصيتان دينيتان متقابلتان: الفقيه المنافق الذي يستغل مسوح الدين لتحقيق رغباته المخالفة لمبادئ الإسلام، والشيخ الذي هجر الخانقاه أو محل العبادة والتبتل إلى الخمارة ومكان العربدة واللهو.
بالنسبة للنموذج الأول يجمع الدارسون تقريبا على كون حافظ الشيرازي يدين من خلاله مظاهر النفاق التي انتشرت في عصره، نظرا لخفوت أصوات التجديد والبعث الديني، وارتباط الكثير من الناس بالدين بهدف أن يخدمهم ويحمل أثقالهم الدنيوية، مما نتج عنه تشوهات كادت تذهب بوجه الدين والتدين. من شواهد هذا المقام يقول حافظ في أبيات ترجمها الشاعر محمد مهدي الجواهري:
عقدة عندي سل عن حلها هذا الأديبا
لا تابت شيوخ وعظتنا أن نتوبا
جلوةٌ للشيخ إن قام على الناس خطيبا
وهو في خلوته يرتكب الأمر المريبا
إن فساد زمن حافظ الشيرازي دفع الكثير ممن يفترض فيهم أن يكونوا أهل علم ودين إلى إضاعة جوهر الدين، والتشبث بمظاهره السطحية إما خوفا على مصالحهم الدنيوية أو طمعا في مكاسب يجمعونها من هنا وهناك، لذلك دأب حافظ على فضحهم والتحذير من زيفهم، كما في هذه الأبيات:
اشرب الخمر، وانظر جيدا إلى الشيخ الواعظ
والمفتي والمحتسب، إنهم جميعا مزورون
وفي موضع آخر يواجه السلطة الدينية الكاذبة:
رغم أن كلامي قاس على واعظ المدينة...
إلا أنه رجل مرائي و متملق للمسلمين
ويقول:
إلزم حب الله تعالى فهو من علامات أهل الله..
وهو مالا نراه في شيوخ مدينتنا
أما النموذج الثاني فقد اختلف حوله المهتمون بحافظ الشيرازي، المجموعة الأولى تعتبر الصورة برمتها منظومة من الرموز والإشارات التي تستقي شرعيتها من حقل العرفان والتصوف، على اعتبار أن ثقافة الرجل عرفانية بامتياز ونذكر من رموز هذه الفئة المعاصرين المفكر مرتضى مطهري. بينما المجموعة الثانية ترى أن الرجل يعرب بوضوح عن مذهبه في اللذة والكفر والمجون، وتضعه جنبا إلى جنب مع الخيام وأمثاله، ومن أقطاب هذه المجموعة الشاعر أحمد شاملو.
يقول حافظ في جرأة ووضوح:
أين دير المجوس وأين الشراب المُصفّى؟
أنى لي السلامة أنا الخربُ
أنظر إلى تباين الدرب من البدء إلى المنتهى
لقد ضجر قلبي من الصومعة وخرقة الرياء
فأين دير المجوس وأين الشراب المُصفّى؟
وما صلة الرند بالصلاح والتقوى، هيهات أن يرقى سماع الوعظ لأنغام الربابة
وماذا سيصيب قلب الخصم إثر طلعة المحبوب؟
(ترجمة الأستاذ محمد الأمين)
مما لانختلف حوله هو أن حافظ رفض واقع النفاق الذي عم عصره، وحاول التعبير بقوة عن ذلك الرفض، لكن هل كلام الرجل ينتهي عند حروفه، أم أن كلماته تتحرر من قيود رسومها وتحلق بعيدا في سماء المعاني، فلا يبقى الدير ديرا ولا المجوس مجوسا، ولا تصبح للشراب أي علاقة بالخمرة التي نعرفها، وتصير الكلمات كلها إشارات لمعاني متعالية، لا تدرك إلا بالحس الروحي ولايفهمها إلا من يستشعرها من الناس.
إن من يقرأ حافظ في أصله الفارسي، سيدرك تماما أن الرجل بعيد كل البعد عن أجواء اللادينية ومسار المجون، فمتانة كلام حافظ وتعالي معانيه، وقوة شبكة المضامين التي تحكم نصوصه، كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أنه يعني شيئا آخر غير ما يعرب عنه ظاهر لغته، وإلا بماذا سنفسر حربه على النفاق وإعلاءه للصدق الإيماني والنقاء القلبي.
أوليس هو القائل فيما ترجمه إبراهيم الشورابي:
إذا ما استمعت لأهل القلوب فحاذر تصفهم بقول العيوب
فإنك لست الخبير بسر الضلوع وسر القلوب
فإني بقيت عزيزا كريما، ولم أحن رأسي لدنيا الذنوب
فبورك رأسي، وما فيه يجري، إلى يوم أقضي ورأسي طروب
---------------
المصدر
http://yalouh75.jeeran.com/archive/2008/1/445977.html